الطاهر أو صديق رمز من رموز النضال والتعليم
واد الطاهر أوصديق يوم 20 جانفي 1913 بمنطقة سيدي نعمان الواقعة بالقرب من مدينة تيزي وزو. فقد مزج منذ فترة شبابه بين حبه الشديد لخوض تجربة التعليم ونمو وعيه السياسي مبكرا. توصل في الأول الى تحقيق أمنيته التي حلم بها، حيث أصبح مدرسا بداية من سنة 1937 ، وهي المهنة التي جعل منها مهمة نبيلة لغرس العلم والتربية والأخاق لدى التلاميذ الذين كانوا تحت اشرافه. حبه لقيم الحرية دفعه الى التطوع للكفاح في الحرب العالمية الثانية من أجل محاربة النازية، لكنه استدرك بسرعة أن هذه القيم لم تكن مجسدة في بلده الجزائر، ودفعه هذا الأمر الى البحث عن السبل التي تمكنه من مساعدة وطنه في التخلص من الاستعمار، فانخرط بدون تردد في حزب الشعب الجزائري وهو يؤدي الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي.
عند تسريحه من صفوف هذا الأخي، كثف نشاطه السياسي في حزب الحريات التابع لحزب الشعب الجزائري وهو يعمل في نفس الوقت كمدرس في التعليم. عمل مدرسا بقرية بن خلفون بالمدية وكان في نفس الوقت يقوم بتنظيم الحياة السياسية في المنطقة رفقة المجاهد الطاهر لعجوزي. ثمّ أصبح معلما ببراقي ابتداء من 1950 ، وأوقفته لأول مرة العساكر الفرنسية في السنة الموالية داخل السكن الرسمي للمدرسة ببراقي بعدما اكتشفت نشاطه السياسي، ليوضع تحت المراقبة المستمرة، وخلق له ذلك مشاكل عديدة مع الاستعمار، منها قيام هذا الأخير بتعطيل ترسيمه في التعليم.
وظل الطاهر أوصديق يحتفظ في ذاكرته بذلك الدعم الذي قدمته له ولأهله بلدة براقي الصغيرة، فضا عن تقدير الأولياء وطلابه وتضامنهم مع المعلم الجزائري. إنها مواقف شجعته على توسيع نشاطه السياسي في سرية تامة عبر هذه البلدة وعلى نطاق أوسع في شتى أحياء العاصمة خال حرب التحرير.
واكتُشف أمره من جديد من طرف الإدارة الاستعمارية الذي أوقفه للمرة الثانية. وتعرض على إثرها الى تعذيب شديد سلّطه عليه مظليي الكولونيل بيجار لمدة ستة وثلاثين يوما، متعرضا لمعاناة فظيعة تركت له أثارا عميقة في جسده وعلى نفسيته. لم يطلق سراحه وبقي مسجونا لدى المظليين، حيث كان يتقاسم مع مثقفين جزائريين آخرين الزنزانة التي كان فيها الشهيد علي بومنجل الذي اغتاله الجنرال السفاح اوزاريس. لقد بقي الطاهر أوصديق يتذكر طيلة حياته، أن خروجه حيا من السجن يعود بالدرجة الاولى الى وفاة على بومنجل وحملة السخط التي في ستينية الإستقلال أثارتها الاعام العالمي. حدثان جنباه رفقة زملائه المحبوسين الاثنى عشر القتل المحتوم. الدكتور جناس، الذي كان ضمن المحبوسين من طرف المظليين يصف لقاءه الأول مع الطاهر أوصديق بقوله « كنا تسعة أطباء داخل مركز العبور لبني مسوس، مما مكّننا من لقاء عدد كبير من الموقوفين، كان من بينهم عبد القادر بن سعيدان، محمد شناف، الطاهر أوصديق وملاكم لا اتذكر اسمه.
اوصديق وشناف كانا في حالة يرثى لها بعدما تُركا معلقين من ايديهم لعدة أيام، وقد استرجعا بصعوبة قواهم البدنية .« بعد إطاق سراحه من طرف المظليين، عاد أوصديق الى بلدة براقي وبالضبط الى المدرسة التي كان يدرس فيها، وقد احتفل السكان بعودته تحت الانظار المعادية لسلطات الاستعمار. لكن اوصديق لم يكن مرتاحا وشعر من جديد بالخطر وأرغمه ذلك على الاختفاء والتوجه في سرية تامة الى تونس من اجل مواصلة نضاله، ومكّنه ذلك من الالتحاق بجيش التحرير الوطني.
بعد الاستقلال، قرر التخلي عن رتبته كضابط في الجيش الوطني الشعبي وفضل وضع نفسه تحت تصرف المدرسة الجزائرية، ففأدار أشهر المدارس التعليمية في الجزائر العاصمة، التي خصصت لتدعيم الشباب الأكثر فقرا في رغبتهم للوصول الى التعليم. قال الطاهر أوصديق في كتاب خصصه للدخول المدرسي الأول بعد الاستقلال « شباب الاستقلال كانوا ذات حساسية وقابلية كبيرة، واقعين تحت تأثير رغبتهم الملحة في شم نسمة الحرية.
وطنية الطاهرأوصديق لم تتوقف عند نيل الجزائر استقلالها، بل بقيت راسخة في وجدانه وفي ذاكرته، وزاد حبه لوطنه لما ناداه الواجب الى تربية الأجيال الجديدة من الشباب الجزائري، التي عاشت الحرمان خال سنوات الحرب، فأبى إلا ان يقف الى جانبها من أجل منحها التربية الدراسية والوعي المتزايد لحماية وطنهم من الأخطار. الطاهر أوصديق كان دائما يستغل الفرص ليظهرأمام تلاميذه حبه الشديد لوطنه.
عندما اندلعت حرب الرمال عام 1963 أيقظت في وجدانه تعلقه الدائم بوطنه. وقتها كان أو صديق مديرا لمدرسة حي » السكالة « بالابيار. تلاميذه رأوه على العاشرة صباحا، مرتديا بذلته العسكرية، ومتوجها الى الثكنة العسكرية القريبة من المدرسة ليبلغ مسؤوليها استعداده التام للدفاع عن التراب الوطني. شغل الطاهر أوصديق عدة وظائف خال السنوات الاولى للاستقلال منها مدرس، مدير مدرسة، مدير للمجمعات المدرسية وإطار سامي على مستوى أكاديمية الجزائر، لكن كان يعتبر نفسه أولا وقبل كل شيء، معلما حريصا على نقل كل ما تعلمه الى شباب الاستقلال. فقد أدار المراكز الخاصة بالراسبين في أول دورة للبكالوريا بعد الاستقلال، ونشط في مختلف المراكز التي برمجت دروس في محو الأمية، وناضل ضمن الحركة الاجتماعية النقابية. عند حصوله على التقاعد، تفرغ الطاهر أوصديق للكتابة وألّف عدة كتب، تاركا وراءه كنزا فكريا مهماّ:
La Berbérie moderne tome 1, 2, « ، 3 «سي سماعيل»، Apologue بطات جزائريات في التاريخ ،« مملكة كوكو »، «أومري »، «حركة التمرد » 1871 و « لالة فاطمة نسومر ». وسلك في ذلك كتابة الأعمال التاريخية بطابع تربوي. وحاول من خال هذه النصوص التعريف بتاريخ الجزائر دون ان يكون مؤرخا. في كتاباته، أعاد الشرف لأولئك الذين وصفوا بقطاع الطرق والذين انتفضوا وثاروا ضد تجاوزات السلطة الكولونيالية ونظامها الاجتماعي. عند وفاته، تذكّره أحد الشبان، وهو بائع على الرصيف، فقال عنه « أوصديق كان يأتي كل مساء ليجلس بقربي ويحدثني عن الوطن. فكل ما أعرفه عن الجزائر أنا مدين له… « توفي الطاهر أوصديق يوم 23 أكتوبر 1994 بالجزائرالعاصمة و دفن حسب رغبته في عين الحمام، مهده و مكان تواجد عائلته عبر القرون.
كاتب المقالة : عيسى.س