كلمة رئيس بلدية الأبيارالسيّد خالد كرجيج في تأبينية الراحلة كريمة سي محند مديرة مستشفى بيرير طرارية
باسم الله الرحمان الرحيم
إلى كل الحاضرين، إلى كافة عمال مستشفى جيلالي بلخنشير، إلى أفراد عائلة مديرة المستشفى الفقيدة كريمة سي محند، باسمي وأصالة عن نفسي وعن أعضاء المجلس الشعبي البلدي وعمال البلدية وكل مواطني ومواطنات الأبيار، إليكم جميعا، أزف سلاما يملؤه الحزن والأسى على روح الفقيدة التي ستبقى ذكراها خالدة في قلوبنا إلى الأبد.
أما بعد، فإني لا أملك من الكلمات ما أواسي به نفسي أو أواسيكم، لأن المصاب جلل والحزن عميق، لكنني أؤكد لكم أن هذه الوقفة التأبينية ليست سوى محاولة متواضعة للاعتراف والانحناء بخضوع وشرف أمام روح السيدة كريمة سي امحند وأمام عائلتها الصغيرة وعائلتها الكبيرة داخل المستشفى.
إني أذرف دموع الفخر والاعتزاز بهذه البطلة الشريفة التي عرفتها عن قرب كما عرفها الكثيرون، بطلة مجاهدة حملت على كتفها سلاح التفاني في العمل وخدمة المرضى إلى آخر لحظة في حياتها.
الحق الحق أقول لكم، كيف لنا أن نرد الجميل لمن أدخلت الفرح على قلوب آلاف المرضى، كيف نرد الجميل لمن أعادت البسمة إلى وجه أب أرهقه المرض أو أم أعياها الألم أو جد لم يكن يسمع أنينه في الليل سواها أو أي مواطن جاء إلى مستشفى بئر طرارية وذاق داخل مصالحه حلاوة الشفاء…
لقد كانت السيدة كريمة سي امحند، مثالا للتضحية والتفاني، لقد كانت رمزا للصبر والأمل، ومصباحا أضاء الطريق أمام كل عمال المستشفى. كيف لا وهي التي آثرت على نفسها وانتقلت لتقيم داخل المستشفى وأعلنت الحرب ضد فيروس لم يكن يعرف أي رحمة ولا شفقة، لقد حملت على عاتقها مهمة ثقيلة جدا، وأنجزتها بإخلاص حتى أتاها الله اليقين وانطفأت شمعتها وهي على درب الصمود، فصعدت روحها إلى بارئها وتركت وراءها عيونا باكية وقلوبا حزينة من أهلها في البيت وأهلها من أفراد الجيش الأبيض.
وإلى هؤلاء، أبعث سلاما كبيرا وتحية إكبار وإجلال لما قدموه تحت قيادة الراحلة ولا زالوا على عهدها يعملون ويكدون، أما نحن فإننا ننحني أمامهم ونتمنى للمدير الجديد كل التوفيق في مهامه النبيلة وستكون مصالح بلدية الأبيار وأنا شخصيا في خدمة كل ما يخدم مرضى مستشفى جيلالي بلخنشير وإدارته.
الراحلة كريمة سي محند مديرة مستشفى بير طرارية
إمرأة حديدية بقلب يذيب الحديد
عُرفت كريمة سي محند بمواقف إنسانية طبعت مسارها المهني وحياتها التي وهبت ال 12 سنة الأخيرة منها للمؤسسة الاستشفائية العمومية لبئر طرارية بالأبيار (الجزائر العاصمة)، إلى أن وافتها المنية في 27 يناير 2021 ، إثر إصابتها بكوفيد 19 -، على التفاف كل المستخدمين حولها مما جعلها مثالا وقدوة في التسيير والتعاطف والانسانية. على مدى سنتين كاملتين، قادت كريمة سي محند حربا شعواء ضد عدو لا يرى، عدو أوقف العالم أجمع على قدم واحدة، هو فيروس كورونا )كوفيد 19 -(، فلم تتوقف عن توعية المواطنين، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وأبدت حسّ مبادرة منقطع النظير، منذ ظهور الفيروس اللعين.
من بين مواقفها الشجاعة التي رفعت من مكانتها بين الأسلاك، دفاعها عن المؤسسة التي تشرف على تسييرها من خال الحفاظ على بناية تاريخية تتواجد بعيادة الطب الداخلي «أرزقي كحال » التابعة للمؤسسة الإستشفائية، كيف لا وهي ابنة الفناّن وخزانة موسيقى الشعبي الراحل «سي محند الرشيد ». إلى جانب ذلك موقفها حين قررت نصب خيمة داخل المستشفى كانت في نظرها «الحل الأمثل »، خال الموجة الثالثة من الوباء، بعد ارتفاع عدد الاصابات بكوفيد 19 -، وتشبّع كل المصالح. ثمّ «استنجدت » – بفضل علاقاتها الطيبة بجميع سكان الأبيار، وبمحسنين ساعدوها على وضع جناح لبناية جاهزة تتسع لستة أسرة ساهمت في تخفيف الضغط على المؤسسة.
لم تكن كريمة سي محند لتتقبّل فكرة ترك مريض واحد يذهب دون أن يتلقى العاج. وخال الموجة الثالثة في جويلية وأوت 2021 ، وحين بلغ ندرة الأدوية والأوكسوجين ماداها، اجتهدت من أجل الحصول على الضروري، وجندت أصدقاء ومعارف من الخارج، بل واتصلت بمؤسسات كبيرة للتكفل بإيواء الطاقم الطبي ونقل الذين يسكنون خارج العاصمة.
يؤكد البروفيسور سيد ادريس نسيم رئيس مصلحة الجراحة العامة، وصديق الراحلة منذ 30 سنة: «كريمة سي محند، هذه المرأة من بياض كانت سيدة عظيمة تحبّ مهنتها، وكانت ترى أنّها ليست مُسيّرة بل مسؤولة طبّية .» كانت كريمة قريبة دائما من المرضى، وفي كل مرّة يتقرّب منها من أجل مريض إلا وانحنت أن تكون مسيّرا ناجحا أمر يحتاج لصرامة كبيرة، أن تكون طبيبا ناجحا أمر يحتاج إلى إنسانية كبيرة، لكن أن تكون مسيّرا لمؤسسة صحية، فإن الأمر أصعب بكثير، ويحتاج أن تجمع بين متناقضين اثنين صرامة كبيرة وإنسانية كبيرة، وذلك الذي يصعب توفّره في فرد واحد. و لكنّه توفّر لدى مديرة مستشفى بير طرارية الراحلة السيدة كريمة سي محند التي كانت امرأة حديدية بقلب يذيب الحديد. استجابة، على حساب وقتها، وحتى على حساب صحتها، معتبرة أن المرضى كلهم سواسية، فقراء كانوا أو أغنياء. في هذا الشأن يروي البروفيسورادريس نسيم أنّ « كر يمة سي محند كانت أكثر من مديرة همهما تسيير مستشفى، فقد كانت عسكريا مصرا على تأدية مهمته حتى وإن كلفته حياته ». على المنوال نفسه يضيف نائب مدير مصالح الصحة محمد مروان حمزاوي أن كريمة سي محند «لم تأخذ عطلة أبدا، ولا حتى يوم راحة، كانت كل يوم هنا، الصباح كما المساء، حتى أن الأمر انتهى بها إلى أن قررت الإقامة والاستقرار داخل المستشفى حتى تكون أقرب من الطاقم الطبي والمرضى ».
ويضيف محمد مروان حمزاوي قائا: «كانت على قدر كبير من الشجاعة. في 11 ديسمبر 2021 طالها الفيروس اللعين، وبعد أن أدخلت العناية بالمستشفى، كان يفترض أن ننقلها إلى مستشفى عين النعجة، لكنها رفضت رفضا قاطعا مغادرة بيتها (المستشفى)، وبعد أسابيع من الاستشفاء والمقاومة التي أعادت إلينا الأمل، اسلمت كريمة سي محند الروح. وفي علاقة هذه المرأة الحديدية بمحيطها المهني، يشهد كل من تعامل معها، من قريب أو من بعيد، أنه يُكنّ لها الودّ والتقدير، فقد كانت المرحومة «الأذن الصاغية » لكل انشغالات العمال المهنية والاجتماعية،من خال تقديم الدعم لكل من قصد مكتبها، مما جعل مستشفى بئر طرارية ينال «سمعة جيدة » بين مختلف المؤسسات الاستشفائية للجزائر العاصمة.
كما جعلت المرحومة مصلحة المريض فوق كل اعتبار، وكانت تستقبل يوميا المرضى، من جميع مناطق الوطن دون بروتوكول أو مواعيد، دون كلل أو ملل، ساعية في التكفل بهم في الوقت المناسب حسب ظروف واختصاصات المستشفى.
ويروي المقربون من الراحلة أن من بين المواقف المؤثرة قصة «أمّ لا تملك الوسائل اللازمة لإجراء فحوصات السكانير لإبنها، قصدت المرحومة طلبا للدعم والمساعدة فلم تجد كريمة سي محند ما تقدمة لهذه الأمّ سوى نزع قادة من الذهب الخالص من رقبتها ومنحها لها لإنقاذ صبيها. » وقصّة أخرى يرويها المستخدمون عن «شاب بطال كان يتّخذ من المستشفى مأوى له، وبعد أن روى قصّته للمرحومة وظّفته عونا داخل المؤسسة، مما ساعده على الاستقرار ».
تحول مستشفى بير طرارية بالنسبة إلى كريمة سي محند إلى بيتها الثاني، واختفت الحدود بين حياتها الخاصة وحياتها المهنية، واختلطت عائلتها الخاصة بعائلتها الطبّية من أطبّاء وممرّضين وعمّال، وأصبح مرضى المستشفى مرضى العائلة. هذه العلاقة الحميمية التي ربطت بينها وبين المستشفى جعلتها ترفض من وزارة الصحية الوزارة الوصية عدة مرات قرارات ترقية، بتعيينها على رأس مؤسسات استشفائية جامعية، واختارت مواصلة المشوار بالمؤسسة الاستشفائية لبئر طرارية التي كانت تصف مستخدميها ب «عائلتها الأولى » التي تقضي معها مدة طويلة يوميا وحتى بعد ساعات العمل.
كاتب المقالة : مهدي.ن