لاعبو فريق جبهة التحرير الوطني للأبيار أسماء خالدة في تاريخ الثورة الجزائرية
نضج فكرة تكوين فريق لكرة القدم للتعريف بالقضية الجزائرية أكثر عبر العالم باستخدام الرياضة وكرة القدم تحديدا، تمّ الشروع في تجسيدها. وعليه، وبعد الاتصال باللاعبين الجزائريين الذين ينشطون في الداخل، تمّ انتقاء لاعبين جزائريين ينشطون بالتحديد في البطولة الاحترافية الفرنسية لكرة القدم. وللتذكير، كان الكثير منهم في أوج عطائهم، بل كانوا يعدون من بين نجوم هذه المنافسة. أمر الالتحاق بالثورة فاجأ البعض، لكنهم لبّوا النداء بدون تردد. والبعض الآخر كان على علم ودراية بالمشروع الثوري الرياضي، بعدما وصلته من قبل أخبار عن تكوين هذا الفريق، على غرار عبد العزيز بن تيفور الذي كان مناضال معروفا في جبهة التحرير الوطني وينشط لصالح الثورة. لقد كان مكلفا بتمرير السلاح على الحدود الفرنسية-السويسرية رفقة اللاعب الآخر حسان شابري. في حين كان كل من مختار لعريبي ومحمد معوش (وهما من الأبيار) وعبد الحميد كرمالي على استعداد تام للالتحاق بهذا الفريق بعد إعلامهم من طرف المناضل والرياضي بومزراق الذي كان اول مدرب للفريق عند تشكيله في تونس. كل هؤلاء اللاعبين شكلوا النواة الأولى لفريق الجبهة. الاتصالات كانت تتم في سريّة تامة خوفا من تفطن البوليس الفرنسي لهذه العملية. الطريق الذي تمّ تحديده هو المرور عبر الحدود الفرنسية – السويسرية، ثم السفر على متن الطائرة نحو روما، العاصمة الإيطالية، التي شكلت محطة هامة في تسهيل التحاق اللاعبين بالعاصمة التونسية، حيث كانت سفارة تونس بروما تأوي ممثلي جبهة التحرير الوطني الذين قاموا بعملية إعداد وثائق وجواز سفر اللاعبين نحو تونس، التي التحقوا بها تباعا إلى ان تشكلت النواة الأولى للفريق ثم التحق بها فيما بعد لاعبين آخرين في سنوات 1960 و 1961 .
فرحات عباس للاعبين: «لقد ساهمتم في تقدم الثورة بعشر سنوات »
لا شك أن رفاق رشيد مخلوفي، أحد أشهر اللاعبين أنذاك في البطولة الفرنسية، والذي التحق بالمجموعة مع الأوائل، قد صنعوا من خلال التحاقهم بالثورة سنة 1958 ، أبرز ملحمة، رصّت صفوف الشعب أكثر ووحّدته وأعطته دفعا جديدا في مواجهة السياسة الاستعمارية لفرنسا. التضحية من أجل الوطن لم تكن لها حدود بالنسبة لهؤلاء اللاعبين، الذين تركوا وراءهم بفرنسا وضعيات مريحة، ومشوارا رياضيا واعدا للبعض منهم، ومستقبلا دوليا لم يكن سوى في بدايته للبعض الآخر، وهم رشيد مخلوفي ومصطفى زيتوني وعبد العزيز بن تيفور، الذين كانوا على وشك المشاركة مع المنتخب الفرنسي في دورة كأس العالم التي احتضنتها السويد في نفس السنة. لاعبون قال لهم رئيس الحكومة المؤقتة الجزائرية آنذاك، فرحات عباس، عند استقبالهم بسويسرا : « لقد ساهمتم في تقدّم الثورة بعشر سنوات ! »
تعداد فريق جبهة التحرير الوطني تَشكّل على مراحل متعاقبة بوصول اللاعبين الجزائريين المحترفين من 1958 إلى 1961 رغم المراقبة البوليسية التي كانت مضروبة عليهم، انطلاقا من فرار الفوج الأول منهم والتحاقه بالعاصمة التونسية. ويسجل تاريخ ثورتنا أن هذا الفريق كان يقوده المرحومان محمد علام بصفته مسؤولا سياسيا عنه، ومحمد بومزراق كأحد مؤسسيه، ومدربه الأول عند نشأته بتونس.
كما لا شكّ أنه في إثارة مغامرة فريق جبهة التحرير الوطني تعيد « ذكريات خالدة للاعبين نالوا إعجاب واحترام الجميع بسبب وضع أنفسهم تحت تصرف الثورة، والمشقات الطويلة التي كانت تقودهم عبر عواصم ومدن العالم من أجل إيصال صوت بلدهم وقضيته العادلة، فكسبوا له المصداقية والتضامن خلال الدورات والمباريات الكروية التي خاضوها بكل أحاسيسهم، تاركين فيها بصماتهم بالنظر إلى المستوى الرفيع لمهاراتهم الفنية التي أبانوا عنها. والطريف فيما حدث للبعض أنهم تلقوا عروضا من بعض الأندية، رفضوها بسبب انخراطهم مع ثورة بلدهم.
المرحوم مقران وليكان الذي كان ضمن الفوج الثالث القادم الى تونس صرح قبل وفاته: «بمجرد التحاقنا بتونس، انسجمنا كلية مع الثورة. والسنوات التي قضيناها ضمن هذا الفريق شكلت أحسن لحظات وذكريات عشناها في حياتنا الرياضية ».
لاعبون و…ثواّر
لقد كانت الاستجابة لنداء جبهة التحرير الوطني تلقائية رغم كل المخاطر التي كانت تهدد اللاعبين في محاولاتهم لتفادي مراقبة الشرطة الفرنسية، التي لم تعلم باستجابة هذا النداء إلا بعد وصول المجموعة الأولى إلى تونس، والمتكونة من مصطفى زيتوني وعبد الرحمان بوبكر وعمار رويغي وقدور بخلوفي وعبد العزيز بن تيفور.
وقد علقت الصحافة الفرنسية في ذلك الوقت بكثرة، على «هروب » اللاعبين الجزائريين الذين كانوا ينشطون في البطولة الفرنسية، وتساءلت اليومية الرياضية الشهيرة «باري ماتش » قائلة: «كيف لهؤلاء اللاعبين أن يختاروا وجهة محفوفة بالمخاطر بينما كان ينتظرهم مستقبل زاهر؟! »
ونفس الشعور لمسناه من المرحوم عبد الرحمان سوكان، وهو ابن الأبيار، الذي كان ينشط ضمن نادي لوهافر وهو يؤدي الخدمة العسكرية، حيث قال: «لقد كان نداء الثورة بالنسبة لنا أقوى من أي شيء آخر، وهو ما يفسر تواصل هروب اللاعبين الجزائريين الذين قامت جبهة التحرير بتأطير رحيلهم من فرنسا بصفة سرية، بغرض وصولهم في أمان تام إلى تونس عبر العاصمة الإيطالية روما، التي مرت بها المجموعة الثانية من اللاعبين الفارين، رشيد مخلوفي وعبد الحميد كرمالي ومختار عريبي وإبراهيمي وبوشوك. وتبع ذلك تدفق اللاعبين الآخرين على العاصمة التونسية، عبد الرحمان إبرير، وهو ابن الأبيار، وعبد الحميد زوبا وسعيد عمارة وبوشاش وعبد القادر معزوزة والآخرون إلى أن اكتملت التشكيلة في 1961 ».
وكانت أولى المنافسات التي شارك فيها فريق جبهة التحرير، الدورة الاحتفالية الكروية التي نظمها بتونس النادي الإفريقي التونسي بمناسبة اليوم العالمي للشغل. وأثناء هذه الدورة واجه «الثوار » الرياضيون الجزائريون فريق فاس المغربي بقيادة لاعبه الشهير بن امبارك. الدورة تشرفت بحضور الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة، وكذا العقيد عميروش الذي تحدّث إلى أعضاء فريق جبهة التحرير. وقد تذكّر عبد الحميد زوبا ما قاله العقيد عميروش لهم: «أنتم أسرع في الجبال من مظليّي العقيد بيجار .» وشارك فريق جبهة التحرير فيما يقارب 63 مباراة، نال فيها 48 انتصارا، وتعادل في إحدى عشرة منها، بينما انهزم في أربع.
لقد كان المغرب أولى المراحل الماراطونية التي باشرها اللاعبون «الثوار » الذين انتصروا في مبارياتهم الأولى خارج تونس على فرق مكناس وفاس ووجدة والرباط، إحدى تلك المباريات حضرتها المطربة الشهيرة الراحلة وردة الجزائرية، التي نزلت إلى الملعب لإعطاء إشارة انطلاقها، وهي التي خلّدت الثورة الجزائرية في كثير من أغانيها.
ويواصل عبد الرحمان سوكان حديثه: «أتذكر أن الرياح كانت تهب بقوة في إحدى هذه المباريات إلى درجة أن الأعمدة التي كانت ترفرف عليها رايات المغرب وتونس، مالت جانبا عكس عمود الراية الجزائرية الذي بقي مستقيما، فتعجبتُ من ذلك المشهد وقلت في قرارة نفسي إن الله معنا في كفاحنا ضد المستعمر الفرنسي .»
محمد سوكان ابن الأبيار : قضينا في الصين 3 أشهر كاملة
كان فريق جبهة التحرير الوطني يتم استقباله بحفاوة كبيرة أينما حلّ. ويتذكر محمد سوكان )الشقيق الأكبر لعبد الرحمان( الاستقبال التلقائي والكبير الذي خصّته به الجماهير الشعبية العراقية، التي احتشدت على الطريق الرابط بين المطار والعاصمة بغداد، وقضى الفريق الجزائري ساعتين لقطع تلك المسافة بسبب تدافع الجماهير لرؤية زملاء مصطفى زيتوني. لكن السفر إلى الصين كان أطول مشوار قضاه اللاعبون رفقة مسيّريهم. حيث بقوا في هذا البلد الصديق للثورة الجزائرية، ثلاثة أشهر كاملة، خاضوا خلالها عدة مباريات مع منتخب الصين وأندية محلية. وقد انبهرت الجماهير الصينية بالمستوى الفني الرفيع الذي قدّمه فريق جبهة التحري. سفريات أخرى قادت الفريق إلى رومانيا ويوغس الفيا، حيث استغل المسؤولون تواجدهم في هذين البلدين للمشاركة في كثير من المباريات، منها واحدة ضد النادي الشهير دينامو زغرب. وكانت لهم فرصة التنقل إلى أحد مستشفيات هذا البلد الذي كان يستقبل المجاهدين الجزائريين الذين تعرضوا لإصابات بليغة في معارك ضد قوات المستعمر الفرنسي.
أما في الأردن، فقد كان الفريق محلّ استقبال رائع من الملك حسين، بينما في الفيتنام كان في استقبالهم الزعيم الثوري الفيتنامي هوشي مينه، والقائد العسكري الكبير الجنرال جياب، حيث لمس اللاعبون من هذين القائدين المساندة القوية التي كان يقدمها الشعب الفيتنامي لنظيره الجزائري في كفاحه ضد الاستعمار. المرحوم أمقران وليكان علّق على بعض المواقف التي عاشها رفقة زملائه عند زيارتهم كل هذه البلدان، بالقول: كان همّنا الوحيد هو إيصال صدى الثورة الجزائرية إلى أبعد الحدود في العالم. في يوغسلافيا مثال، كنا نلعب مباراة كل يومين من خلال التنقل من مدينة إلى أخرى، حتى إن الجميع كان يلقّبنا بفريق «هارلم غلوب تروتر »؛ نسبة إلى التشكيلة الأمريكية لكرة السلة الشهيرة، التي كانت هي الأخرى تجوب العالم».
وبعد انتهاء الزيارة إلى الفيتنام، انتقل الفريق الجزائري إلى جمهورية مصر العربية، لكن بدون مشاركة في أي مباراة، حيث كان هذا البلد يخشى من تعرضه لعقوبات الفيفا، التي كانت واقعة آنذاك تحت تأثير فرنسا. وقد تذكّر المرحوم أمقران وليكان بكثير من التأثر، شغف الشعب المصري لمشاهدة فريق جبهة التحرير. هكذا كانت المغامرات النضالية لفريق جبهة التحرير الوطني، الذي دخل أعضاؤه تاريخ الثورة الجزائرية من بابه الواسع.
إعداد: ع.اسماعيل