الأبيار..مقام للتشكيل ومصدر للإلهام
شكلت شرفة على المتوسط وبوابة للريف العاصمي
وكانت «الأبيار » بوّابة فحص مدينة الجزائر في فترة الحكم التركي ومصيف عائلاتها الغنية وإحدى أهم المناطق التي اختارها التشكيليون الفرنسيون بالذات لإقامتهم، خال فترة الاحتال الفرنسي. أولاّ لقربها من المدينة الكلونيالية، فهي لا تبعد عنها إلا بكيلومترات قليلة. ثم لأنها تتوسط المدينة والريف العاصمي وعلى قدر كبير من الخضرة، وفوق كل ذلك تشكل شرفة رائعة تطل
على البحر المتوسط، خاصة «شرفات سان رافييل ». عوامل كلها تغري باستقرارالفنان بعيدا عن الضوضاء وتكفل له محيطا ملهما للإبداع
حين نتحدث عن «الأبيار » والفنون التشكيلية يتبادر إلى أذهاننا مباشرة فنان المنمنمات ومؤسس مدرستها الحديثة في القرن العشرين محمد راسم( 1975 – 1896) الذي أقام بالأبيار، وبها قتل عن عمر يناهز 76 سنة، هو وزوجته السويدية، في حادثة مازال الغموض يكتنفها إلى يومنا هذا. لكن قبل محمد راسم مرّ على الأبيار عدة فناّنين تشكيليين، منهم ليون كوفي 1874 – 1933 . هذا الرسام الفرنسي، الذي رسم لوحة و أسماها «الأبيار ،» اهتم كثيرا بالديكور، واستهوته الجزائر و الأبيار ومناظرهما الطبيعية و وجوه الناس ولباسهم والحرف الصغيرة فيها، وأصبح مديرا لمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر في 1909
بعده كان هنري شوفاليي (1886- 1945) الذي جاء للجزائر أستاذا للرسم بثانوية بيجو (الأمير عبد القادر حاليا) في سنة 1921 ، وقد اختار الأبيار مستقرا له، وأقام بفيا الورد. ولهذا الفنان لوحتان عن الأبيار واحدة تحت عنوان «كنيسة الأبيار »، وأخرى تحت
عنوان «بيت موريسكي في الجزائر »، وجاء بعده ابنه «إيتيان شوفاليي» (1910) صاحب لوحة ثلج في الأبيار
الرسام والمعلم «رينيه سينتيس »، وهو من أم جزائرية وأب فرنسي من أصول إسبانية، ولد ببرج بونعامة )موليير إبان الاحتال(، لكنه أقام بالأبيار، وعمل بها معلّما للرسم للأطفال المعوقين بمعهد «جوزيف أنجاد .» رسم رينيه سينتيس القصبة، وكانت لوحاته، خاصة «الصباح الصغير » و »البحرية » وكيرفيو » تحكي جوّ الاضطرابات في مدينة الجزائر خال ثورة التحرير الجزائرية. في جانفي 1956 ، انظم «رينيه سينتيس » إلى النداء الذي أطلقه ألبير كامو، تحت عنوان «النداء من أجل هدنة مدنيّة في الجزائر » من أجل حوار بين مكوّنات البلد، الجزائريين المسلمين والأقدام السوداء. وقد اكتشفت في سنة 2014 مخطوطة لمسودّة أوّلية من هذا النداء بخط ألبير كامو، تقع في 10 صفحات، مذيلة بعبارة « « إلى ايفلين ورينيه سينتيس شقيقهما في الجزائر » وموقعة باسم «سينتيس- كامو .» كان «رينيه سينتيس » قريبا من حركة الاستقلال إلى جانب عمار أوزقان ومحمد البجاوي وبوعام موساوي، وحتى من التشكيليين «لويس بينيستي » و »حسن بن عبورة » و »محمد بوزيد ،» والكاتب «مولود فرعون .» وقد كلفته مواقفه المناهضة لاستمرار الاحتال الفرنسي أن اختطفه كوموندوس من المنظمة المسلحة السرية يومها لم يظهر عليه أي خبر
ولم تقتصر علاقة من بيته في الأبيار، ومن الأبيار في الفن التشكيلي بالرسامين الفرنسيين فقط، فهناك رسامون من جنسيات أخرى مرّوا بها فكانت مصدر إلهام لهم وخلدوها في لوحاتهم، أمثال الرسام المستشرق الأمريكي «فردريك أرثر برديجمان 1847-( » 1928 (، استقر في فرنسا، لكنه زار الجزائر بين عامي 1872 و 1874 . رسم «فردريك أرثر برديجمان » عدة لوحات عن الجزائر منها «في قرية بالأبيار »، وهي عبارة عن صورة لنساء وخادمة وطفلة صغيرة في فناء إحدى البيوت الصيفية ذات الطابع الموريسكي بفحص «الأبيار .» «جورج أنتوان روشيغروس (1859-1938)، رسام فرنسي اعتنى برسم الأحداث التاريخية، و من أهم لوحاته في هذا المجال «نهاية بابل ». اكتشف الجزائر في 1892 ، وكانت منطلقا لتحوله نحو الاستشراق. كانت زوجته التي عملت ممرّضة مصدر إلهامه، أقام في البداية بفيا «الزيتونات » )الإقامة الرسمية للسفير الفرنسي حاليا( بالأبيار، ثم بنى فيا بالأبيار دائما، سمّاها «جنان مريم » نسبة إلى زوجته «ماري ،» وحين توفيت بقي متنقّا بين الجزائر شتاء وباريس صيفا
وقد كرس «جورج أنتوان روشيغروس » جل أعماله، بعد وفاة زوجته، في رسم المناظر الطبيعية بفيلته بالأبيار، «طريق نوريا بجنان مريم ،» «مصلى الحديقة ،» «الزيتونة العجوز في جنان مريم » إلى أن توفي بالجزائر ونقل جثمانه إلى فرنسا
ولعل من أهمّ الفنانين التشكيليين الذين ارتبط إسمهم بالأبيار، هو الرّسام والنحّات لويس بنيستي (1913-1995) الذي ولد بالأبيار، وكانا قريباً من جان سيناك وألبير كامي اللذان سخرا له عدة فقرات للتعريف بفنّه. من خال فنه الرمزي، يحكي لنا لويس بنيستي الحياة اليومية الداخلية والخارجة بمدينة الجزائر. و من أجمل لوحاته «لاعب الناي .» في مقام آخر، تمرّ عشر سنوات على رحيل الرسام عليّ خوجة عليّ الذي يبقى إسمه، من خال البصمة التي تركها في الذاكرة الجماعية بتصميمه للطابع البريدي، راسخا في الكاتالوغ الجزائري الخاص بالطوابع بعد أن أثراه بحوالي خمسين طابعا. للعلم هو تلميذ وابن أخت الفنانين محمد وعمر راسم الذي رسم أول طابع صدر في 5 جويلية 1963 يحمل تأشيرة الدولة الجزائرية. أسماء أخرى كثيرة أقامت بالأبيار أو كانت الأبيار مصدر إلهامه وموضوع لوحاتها، أمثال «ليون كوفي » (1933 1874) «بيار سوغون-فيبر» (1886?) «أليكسندر ريغوتارد» ،(1944-1871) «بيير فريلونغ» ،(1961-1886) فيكتور باريكوند » (1864-1934)، لويس فيرناز (1948 – 1901). وتشكل أعمال هؤلاء، ليس فقط قيمة فنية وجمالية تؤرخ ل «مدرسة الجزائر » التشكيلية، بل وأيضا قيمة «إيقونوغرافية » تساعد في البحث في تاريخ منطقة الأبيار وتطوّرها. القائمة طويلة بهؤلاء الفنّانين الذين حملوا الجزائر في قلوبهم وتركوا لنا لوحات يسكنها الضياء والشغف، يبقى المتحف الوطني للفنون الجميلة أفضل مكان لاكتشافهم أو إعادة اكتشافهم، في الطابق الثالث بجناح بشير يلس